الأدب بشِقَّية بقلمى

[صدى الحرمان]

مَن كان يظُن أن الأدب بشِقَّيه مَنثورِه ومَنظومِه نوعٌ من الإرفاه الفكري لا يتخطاه، فقد حاد عن طريق الصواب، ووَلَج إلى الجهالة من كل باب، فالأديبُ لا يكون أديبًا حتى يكون مُلِمًّا بعلوم شَتَّى أوَّلُها عِلْمَا النحوِ والصرف ليخرج كلامُه مستقيمًا خاليًا من اللحن، ثم يكون عليمًا بأصول الكتابة ليخرج مَكتوبُه خاليًا من عُيوبِها، ثم يكون على دراية بعلوم الشريعة مُطَّلِعًا عليها مع اطلاعه على الثقافة العامة سواءٌ كانت علميةً أو سياسيةً أو اجتماعيةً ... إلخ تلك الأمور التي تَخْدُم أدبَه، فتراه يُخرِجُ لك عُلومًا شتى هي نتاج اطلاعه في نصوص بديعة تأخذ بمَجامِعِ النفس وتأسرها، فهو يعطيك العلم سائغًا دون أن تستشعر جَفافَه من خلال بيانه الذي وهبه الله إياه، فتخرج منه وقد تعلمت دون عناء، واستمتعت بما جاد عليك بتدبر وإصغاء.

ثم إن الأدب رسالة ولن تصل الرسالة إلى قارئها إلا إذا أعربت عن نفس كاتبها أو أبانت عن فكره، وعليه أيضًا مع هذا أن يعالج في أدبه قضايا مجتمعه، وأن يساهم به في حل مشكلات وطنه وأمته، ولا مانع بعد هذا أن يكون الأدب ترويحًا عن النفس من عناء الكد والكدح بما فيه من المُلَح لتخرج نشيطة قادرة على استقبال ما هي مقبلة عليه. وقد نقل عن الأصمعي أنه قال: بَلَغْتُ ما بَلَغْتُ بالعلم، ونِلْتُ ما نِلْتُ بالمُلَح.

ولك أن تتأمل لو أن التراث العربي خلا من أمثال ابن المقفع والجاحظ وأبي حيان وابن قتيبة وعبد الحميد الكاتب وابن العميد وغيرهم الكثير إلى يومنا هذا ممن أمتعونا ببديع ما كتبوا، وكذلك لك أن تتأمل لو خلا من الشعراء من أمثال امرئ القيس وزهير ولبيد وجرير والفرزدق وبشار وأبي تمام والبحتري والمتنبي وغيرهم الكثير إلى يومنا هذا ممن أمتعونا ببديع ما نظموا.
لك أن تتأمل كيف يكون التراث العربي دون هذا النتاج الفكري الذي خلفه هؤلاء العظماء ومن سار على دربهم؟!

ولقد اطلعت على مقدمات لكثير من العلماء في علوم كالحديث والفقه واللغة فوجدتهم أخذوا بحظ وافر من الأدب منظومه ومنثوره وكان أحظاهم عندي من كان في تصنيفه يسير على خطى الأدباء في الكتابة يسقيك علمه فتقول: هل من مزيد؟!

ولو أن مائدة عليها من صنوف الطعام ما يستعصي على العد وخلت من اللحم لكانت ناقصة لا تشتهيها النفس، فكذلك العلوم لو خلت من الأدب.
وإن أول ما امتاز به العرب هو البيان، لذا كانت رسالة النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم لهم في أعلى مراتب الإعجاز البياني ما جعلهم يذعنون له ويقرون ببديع صنعته، وإنه وإن كان بلسانهم لكن أعياهم عن مجاراته والإتيان بمثله وهذا أكبر البراهين على إعجازه؛ لأن الكلام الذي هو من صميم لغتك ويعييك أن تجاريه يكون كلاما معجزا، ثم هو مع بيانه وإعجازه فيه خبر من قبلنا ونبأ من بعدنا، إن طلبت فيه العلم وجدته أو التاريخ صادفته، أو الأدب لاقيته، لذا كان القرآن عندي أول منهاج الأديب، وما من أديب أو شاعر ممن ذكرت لكم إلا وكان أول ابتدائه في تعلم الأدب هو حفظ القرآن الكريم، ثم حديث رسول رب العالمين وصاحبته الأكرمين، ثم الأمثل فالأمثل ممن سبقه في هذا المضمار.
فلا تستصغرن شأن الأدب فما رسخت قدم في علوم العربية إلا من خلاله وبعد التضلع من مائه.




بقلمى